الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرآن العظيم (نسخة منقحة)
.تفسير الآية رقم (127): {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا (127)}قال البخاري: حدثنا عبيد بن إسماعيل، حدثنا أبو أسامة قال: حدثنا هشام بن عروة، أخبرني أبي عن عائشة: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ} إلى قوله: {وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} قالت: هو الرجل تكون عنده اليتيمة، هو وليها ووارثها قد شَرِكته في ماله، حتى في العَذْق، فيرغب أن ينكحها، ويكره أن يزوِّجها رجلا فيشركه في ماله بما شركته فيعضلها، فنزلت هذه الآية.وكذلك رواه مسلم، عن أبي كُرَيب، وعن أبي بكر بن أبي شيبة، كلاهما عن أبي أسامة.وقال ابن أبي حاتم: قرأت على محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، أخبرنا ابن وهب، أخبرني يونس، عن ابن شهاب، أخبرني عروة بن الزبير، قالت عائشة: ثم إن الناس استفْتَوْا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية فيهن، فأنزل الله: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ} الآية، قالت: والذي ذكر الله أنه يتلى عليهم في الكتاب الآية الأولى التي قال الله تعالى {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 3].وبهذا الإسناد، عن عائشة قالت: وقول الله عز وجل: {وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} رغبة أحدكم عن يتيمته التي تكون في حجره حين تكون قليلة المال والجمال، فنهوا أن ينكحوا ما رغبوا في مالها وجمالها من يتامى النساء إلا بالقسط، من أجل رغبتهم عنهن.وأصله ثابت في الصحيحين، من طريق يونس بن يزيد الأيْلي، به.والمقصود أن الرجل إذا كان في حجره يتيمة يحل له تزويجها، فتارة يرغب في أن يتزوجها، فأمره الله عز وجل أن يمهرها أسوة أمثالها من النساء، فإن لم يفعل فليعدل إلى غيرها من النساء، فقد وسع الله عز وجل. وهذا المعنى في الآية الأولى التي في أول السورة. وتارة لا يكون للرجل فيها رغبة لِدَمَامَتِهَا عنده، أو في نفس الأمر، فنهاه الله عز وجل أن يُعضِلها عن الأزواج خشية أن يَشْركوه في ماله الذي بينه وبينها، كما قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله: {فِي يَتَامَى النِّسَاء اللاتي لا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} الآية، فكان الرجل في الجاهلية تكون عنده اليتيمة، فيلقي عليها ثوبه، فإذا فعل ذلك بها لم يقدر أحد أن يتَزَوّجها أبدًا، فإن كانت جميلة وهويها تَزَوَّجَها وأكل مالها، وإن كانت دميمة منعها الرجال أبدا حتى تموت، فإذا ماتت ورثها. فَحَرَّم الله ذلك ونهى عنه.وقال في قوله: {وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ} كانوا في الجاهلية لا يورثون الصغار ولا البنات، وذلك قوله: {لا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ} فنهى الله عن ذلك، وبيَّن لكل ذي سهم سهمه، فقال: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنْثَيَيْنِ} [النساء: 11] صغيرًا أو كبيرًا.وكذا قال سعيد بن جبير وغيره، قال سعيد بن جبير في قوله: {وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ} كما إذا كانت ذات جمال ومال نكحتها واستأثرت بها، كذلك إذا لم تكن ذات جمال ولا مال فأنكحها واستأثر بها.وقوله: {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا} تهييجًا على فعل الخيرات وامتثال الأمر وأن الله عز وجل عالم بجميع ذلك، وسيجزي عليه أوفر الجزاء وأتمه..تفسير الآيات (128- 130): {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الأنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (128) وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (129) وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا (130)}يقول تعالى مخبرا ومشرعا عن حال الزوجين: تارة في حال نفور الرجل عن المرأة، وتارة في حال اتفاقه معها، وتارة في حال فراقه لها.فالحالة الأولى: ما إذا خافت المرأة من زوجها أن ينفر عنها، أو يعرض عنها، فلها أن تسقط حقها أو بعضه، من نفقة أو كسوة، أو مبيت، أو غير ذلك من الحقوق عليه، وله أن يقبل ذلك منها فلا جناح عليها في بذلها ذلك له، ولا عليه في قبوله منها؛ ولهذا قال تعالى: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا} ثُمَّ قَالَ {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} أي: من الفراق. وقوله: {وَأُحْضِرَتِ الأنْفُسُ الشُّحَّ} أي الصلح عند المُشَاحَّة خير من الفراق؛ ولهذا لما كبرت سودة بنت زَمْعَة عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على فراقها، فصالحته على أن يمسكها، وتترك يومها لعائشة، فَقَبِل ذلك منها وأبقاها على ذلك.ذكر الرواية بذلك:قال أبو داود الطيالسي: حدثنا سليمان بن معاذ، عن سِمَاك بن حرب، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: خَشيت سَوْدَة أن يطلقها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله، لا تطلقني واجعل يومي لعائشة. ففعل، ونزلت هذه الآية: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا} الآية، قال ابن عباس: فما اصطلحا عليه من شيء فهو جائز.ورواه الترمذي، عن محمد بن المثنى، عن أبي داود الطيالسي، به. وقال: حسن غريب.وقال الشافعي أخبرنا مسلم، عن ابن جُرَيْج، عن عطاء، عن ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي عن تسع نسوة، وكان يقسم لثمان.وفي الصحيحين، من حديث هشام بن عُرْوة، عن أبيه، عن عائشة قالت: لما كَبرْت سودةُ بنتُ زَمعة وهبَتْ يومها لعائشة، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم لها بيوم سودة.وفي صحيح البخاري، من حديث الزهري، عن عروة، عن عائشة، نحوه.وقال سعيد بن منصور: أنبأنا عبد الرحمن بن أبي الزِّناد، عن هشام، عن أبيه عروة قال: أنزل الله تعالى في سودة وأشباهها: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا} وذلك أن سودة كانت امرأة قد أَسَنَّتْ، ففزعت أن يفارقها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، وضنَّت بمكانها منه، وعرفت من حب رسول الله صلى الله عليه وسلم عائشة ومنزلتها منه، فوهبت يومها من رسول الله صلى الله عليه وسلم لعائشة، فقبل ذلك النبي صلى الله عليه وسلم.قال البيهقي: وقد رواه أحمد بن يونس: عن ابن أبي الزِّناد موصولا. وهذه الطريق رواها الحاكم في مستدركه فقال:حدثنا أبو بكر بن إسحاق الفقيه، أخبرنا الحسن بن علي بن زياد، حدثنا أحمد بن يونس، حدثنا عبد الرحمن بن أبي الزِّناد، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة: أنها قالت له: يا ابن أختي، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يفضل بعضنا على بعض في مكثه عندنا، وكان قَلَّ يوم إلا وهو يطوف علينا، فيدنو من كل امرأة من غير مَسِيس، حتى يبلغ إلى من هو يومها فيبيت عندها، ولقد قالت سودة بنت زَمْعة- حين أسنت وفَرِقت أن يفارقها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم-: يا رسول الله، يومي هذا لعائشة. فَقَبِل ذلك رسولُ الله صلى الله عليه وسلم. قالت عائشة: ففي ذلك أنزل الله: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا}وكذا رواه أبو داود، عن أحمد بن يونس، به. ثم قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه.وقد رواه الحافظ أبو بكر بن مَرْدُويه من طريق أبي بلال الأشعري، عن عبد الرحمن بن أبي الزناد، به نحوه. ومن رواية عبد العزيز بن محمد الدَّرَاوَرْدي، عن هشام بن عروة، بنحوه مختصرا، والله أعلم.وقال أبو العباس محمد بن عبد الرحمن الدَّغُولي في أول معجمه: حدثنا محمد بن يحيى، حدثنا مسلم بن إبراهيم، حدثنا هشام الدَّسْتُوائي، حدثنا القاسم بن أبي بَزّة قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى سودة بنت زَمْعة بطلاقها، فلما أن أتاها جلست له على طريق عائشة، فلما رأته قالت له: أنشدك بالذي أنزل عليك كلامه واصطفاك على خلقه لمَّا راجعتني، فإني قد كبرت ولا حاجة لي في الرجال، لكن أريد أن أبعث مع نسائك يوم القيامة. فراجعها فقالت: إني جعلت يومي وليلتي لِحبّة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهذا غريب مرسل.وقد قال البخاري: حدثنا محمد بن مقاتل، أخبرنا عبد الله، أخبرنا هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا} قالت الرجل تكون عنده المرأة، ليس بمستكثر منها، يريد أن يفارقها، فتقول: أجعلك من شأني في حل. فنزلت هذه الآية.وقال ابن جرير: حدثنا ابن وَكِيع، حدثنا أبي، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} قالت: هذا في المرأة تكون عند الرجل، فلعله ألا يكون يستكثر منها، ولا يكون لها ولد، ولها صحبة فتقول: لا تطلقني وأنت في حل من شأني.حدثني المثنى، حدثنا حجاج بن مِنْهال، حدثنا حمَّاد بن سلمة، عن هشام، عن عروة، عن عائشة في قوله: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا} قالت: هو الرجل يكون له المرأتان: إحداهما قد كبرت، أو هي دَمِيمة وهو لا يستكثر منها فتقول: لا تطلقني، وأنت في حل من شأني.وهذا الحديث ثابت في الصحيحين، من غير وجه، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة بنحو ما تقدم، ولله الحمد والمنة.وقال ابن جرير: حدثنا ابن حُمَيد وابنُ وكيع قالا حدثنا جرير، عن أشعث، عن ابن سيرين قال: جاء رجل إلى عمر، رضي الله عنه، فسأله عن آية، فكَرِه ذلك وضربه بالدرّة، فسأله آخر عن هذه الآية: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا} فقال: عن مثل هذا فسلوا. ثم قال: هذه المرأة تكون عند الرجل، قد خلا من سنها، فيتزوج المرأة الشابة يلتمس ولدها، فما اصطلحا عليه من شيء فهو جائز.وقال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسن الهِسِنْجاني، حدثنا مُسَدَّد، حدثنا أبو الأحوص، عن سِمَاك بن حرب، عن خالد بن عَرْعَرَة قال: جاء رجل إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه فسأله عن قول الله عز وجل: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا} قال علي: يكون الرجل عنده المرأة، فتنبو عيناه عنها من دمامتها، أو كبرها، أو سوء خلقها، أو قذذها، فتكره فراقه، فإن وضعت له من مهرها شيئا حل له، وإن جعلت له من أيامها فلا حرج.وكذا رواه أبو داود الطيالسي، عن شعبة، عن حماد بن سلمة وأبي الأحوص.ورواه ابن جرير من طريق إسرائيل أربعتهم عن سِمَاك، به وكذا فسرها ابن عباس، وعُبَيدة السَّلْمَاني، ومجاهد بن جَبْر، والشُّعَبِي، وسعيد بن جبَيْر، وعطاء، وعطية العوْفي ومكحول، والحكم بن عتبة، والحسن، وقتادة، وغير واحد من السلف والأئمة، ولا أعلم في ذلك خلافا في أن المراد بهذه الآية هذا والله أعلم.وقال الشافعي: أنبأنا ابن عيينة، عن الزهري، عن ابن المسيَّب: أن ابنة محمد بن مَسْلَمة كانت عند رافع بن خديج فكره منها أمرا إما كِبَرًا أو غيره فأراد طلاقها فقالت: لا تطلقني واقسم لي ما بدا لك. فأنزل الله عز وجل: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا} الآية.وقد رواه الحاكم في مستدركه، من طريق عبد الرزاق، عن مَعْمَر، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار بأطول من هذا السياق.وقال الحافظ أبو بكر البيهقي: أخبرنا أبو سعيد بن أبي عمرو، حدثنا أبو محمد أحمد بن عبد الله المُزَني، أنبأنا علي بن محمد بن عيسى، حدثنا أبو اليمان، أخبرني شعيب بن أبي حمزة، عن الزهري، أخبرني سعيد بن المسيب وسليمان بن يَسَار: أن السُّنَّة في هاتين الآيتين اللتين ذكر الله فيهما نشوز المرء وإعراضه عن امرأته في قوله: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا} إلى تمام الآيتين، أن المرء إذا نشز عن امرأته وآثر عليها، فإن من الحق أن يعرض عليها أن يطلقها أو تستقر عنده على ما كانت من أثرة في القَسْم من ماله ونفسه، فإن استقرت عنده على ذلك، وكرهت أن يطلقها، فلا حرج عليه فيما آثر عليها من ذلك، فإن لم يعرض عليها الطلاق، وصالحها على أن يعطيها من ماله ما ترضاه وتقر عنده على الأثرة في القَسْم من ماله ونفسه، صلح له ذلك، وجاز صلحها عليه، كذلك ذكر سعيد بن المسيَّب وسليمان الصُّلحَ الذي قال الله عز وجل {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْر}.وقد ذكر لي أن رافع بن خُدَيْج الأنصاري- وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم- كانت عنده امرأة حتى إذا كبرت تزوج عليها فتاة شابة، وآثر عليها الشابة، فناشدته الطلاق فطلقها تطليقة، ثم أمهلها، حتى إذا كادت تحلّ راجعها، ثم عاد فآثر الشابة عليها فناشدته الطلاق فطلقها تطليقة أخرى، ثم أمهلها، حتى إذا كادت تحل راجعها، ثم عاد فآثر الشابة عليها، فناشدنه الطلاق فقال لها: ما شئتِ، إنما بقيت لك تطليقة واحدة، فإن شئتِ استقررتِ على ما تَريْن من الأثرة، وإن شئت فارقتك، فقالت: لا بل أستقر على الأثرة. فأمسكها على ذلك، فكان ذلك صلحهما، ولم ير رافع عليه إثما حين رضيت أن تستقر عنده على الأثرة فيما أثر به عليها.وهذا رواه بتمامه عبد الرحمن بن أبي حاتم، عن أبيه، عن أبي اليمان، عن شعيب، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، وسليمان بن يسار، فذكره بطوله، والله أعلم.وقوله: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: يعني التخيير، أن يخير الزوج لها بين الإقامة والفراق، خير من تمادي الزوج على أثرة غيرها عليها.والظاهر من الآية أن صلحهما على ترك بعض حقها للزوج، وقبول الزوج ذلك، خير من المفارقة بالكلية، كما أمسك النبي صلى الله عليه وسلم سودة بنت زَمْعة على أن تركت يومها لعائشة، رضي الله عنها، ولم يفارقها بل تركها من جملة نسائه، وفعله ذلك لتتأسى به أمته في مشروعية ذلك وجوازه، فهو أفضل في حقه عليه الصلاة والسلام. ولما كان الوفاق أحب إلى الله عز وجل من الفراق قال: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ}.بل الطلاق بغيض إليه، سبحانه وتعالى؛ ولهذا جاء في الحديث الذي رواه أبو داود وابن ماجه جميعًا، عن كثير بن عبيد، عن محمد بن خالد، عن مُعَرِّف بن واصل، عن محارب بن دِثَار، عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أبغض الحلال إلى الله الطلاق».ثم رواه أبو داود عن أحمد بن يونس، عن مُعَرِّف، بن محارب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.... فذكر معناه مرسلا.وقوله: {وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} أي وإن تتجشموا مشقة الصبر على من تكرهون منهن، وتقسموا لهن أسوة أمثالهن، فإن الله عالم بذلك وسيجزيكم على ذلك أوفر الجزاء.وقوله تعالى: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ} أي: لن تستطيعوا أيها الناس أن تساووا بين النساء من جميع الوجوه، فإنه وإن حصل القسْم الصوري: ليلة وليلة، فلابد من التفاوت في المحبة والشهوة والجماع، كما قاله ابن عباس، وعُبَيْدة السَّلْمَاني، ومجاهد، والحسن البصري، والضحاك بن مزاحم.وقد قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زُرْعة، حدثنا ابن أبي شيبة، حدثنا حسين الجُعَفِي، عن زائدة، عن عبد العزيز بن رُفَيع، عن ابن أبي مُلَيكة قال: نزلت هذه الآية: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ} في عائشة. يعني: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحبها أكثر من غيرها، كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد وأهل السنن، من حديث حمَّاد بن سلمة، عن أيوب، عن أبي قِلابة، عن عبد الله بن يزيد، عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم بين نسائه فيعدل، ثم يقول: «اللهم هذا قَسْمي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك» يعني: القلب.لفظ أبي داود، وهذا إسناد صحيح، لكن قال الترمذي: رواه حماد بن زيد وغير واحد، عن أيوب، عن أبي قلابة مرسلا قال: وهذا أصح.وقوله {فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ} أي: فإذا ملتم إلى واحدة منهم فلا تبالغوا في الميل بالكلية {فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} أي: فتبقى هذه الأخرى مُعَلَّقة.قال ابن عباس، ومجاهد، وسعيد بن جبير، والحسن، والضحاك، والربيع بن أنس، والسدي، ومقاتل بن حيان: معناه لا ذات زوج ولا مطلقة.وقد قال أبو داود الطيالسي: أنبأنا هَمَّام، عن قتادة، عن النضر بن أنس، عن بشير بن نَهِيك، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من كانت له امرأتان فمال إلى إحداهما، جاء يوم القيامة وأحد شِقَّيْهِ ساقط».وهكذا رواه الإمام أحمد وأهل السنن، من حديث همَّام بن يحيى، عن قتادة، به.وقال الترمذي: إنما أسنده همَّام، ورواه هشام الدستوائي عن قتادة- قال: «كان يقال». ولا نعرف هذا الحديث مرفوعا إلا من حديث همَّام.وقوله: {وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} أي: وإن أصلحتم في أموركم، وقسمتم بالعدل فيما تملكون، واتقيتم الله في جميع الأحوال، غفر الله لكم ما كان من ميل إلى بعض النساء دون بعض.ثم قال تعالى: {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا} وهذه هي الحالة الثالثة، وهي حالة الفراق، وقد أخبر تعالى أنهما إذا تفرقا فإن الله يغنيه عنها ويغنيها عنه، بأن يعوضه بها من هو خير له منها، ويعوضها عنه بمن هو خير لها منه: {وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا} أي: واسع الفضل عظيم المن، حكيما في جميع أفعاله وأقداره وشرعه.
|